نظام أمغار عبقرية التنظيم الذاتي في المجتمع الأمازيغي
على مر العصور، طورت القبائل الأمازيغية في المغرب نظامًا اجتماعيًا فريدًا وفعالًا لإدارة شؤون الحياة اليومية وحل النزاعات دون الحاجة إلى تدخل سلطة مركزية أو خارجية. كان هذا النظام، المعروف بمنصب "أمغار"، حجر الزاوية في تحقيق العدل والحفاظ على تماسك القبيلة. تمثل هذه المؤسسة العريقة أحد أروع الابتكارات التنظيمية التي ابتكرها المجتمع الأمازيغي منذ القدم، وتعكس عبقرية في التنظيم الذاتي والقدرة على إدارة الشؤون الداخلية بفعالية.
نظام أمغار: الهيكلية والمعايير
كان منصب أمغار في القبائل الأمازيغية يتطلب توفر شروط خاصة في الشخص الذي يتولى هذا الدور. عادة ما يكون أمغار أكبر سنًا في القبيلة، مشهودًا له بالحكمة، النزاهة، والصدق. كان يُختار بعناية من بين أفراد القبيلة، بعد اجتماع يضم الرجال لاختيار الشخصية التي تستحق هذا المنصب بناءً على تلك المعايير.
لم يكن أمغار مجرد زعيم عادي؛ بل كان يُعتبر السلطة العليا في القبيلة، يتمتع باحترام كبير ومهابة من الجميع. كان دوره يشمل الفصل في النزاعات، إدارة الشؤون العامة، وتمثيل القبيلة في المفاوضات مع القبائل الأخرى. ومن اللافت للنظر أن أمغار كان يتولى منصبه تطوعًا، دون أجر أو تعويضات، مما يعكس عمق التزامه بخدمة مجتمعه.
آلية اختيار أمغار
تتم عملية اختيار أمغار بأسلوب ديمقراطي تشاوري. كان رجال القبيلة يجتمعون لاختيار الشخص المناسب للمنصب، وغالبًا ما كانت عملية الاختيار تتسم بالصعوبة، ليس بسبب قلة المؤهلين، بل لأن العديد من شيوخ القبيلة كانوا يتهربون من تولي هذا المنصب. لم يكن هذا الهروب ناجمًا عن صعوبة المسؤولية، بل كان ينبع من تواضع الشيوخ واعتقادهم بعدم أهليتهم للمنصب. في بعض الحالات، كان يتم اختيار أحد الشيوخ غيابياً، وبعد ذلك يتوجه إليه أفراد القبيلة في منزله للإلحاح عليه بقبول المنصب.
صلاحيات أمغار ودوره في المجتمع
يتحمل أمغار مسؤوليات متعددة تشمل الفصل في النزاعات والخصومات بين الأفراد والعائلات، وإدارة الجلسات المحلية لمناقشة القضايا الطارئة، واتخاذ القرارات المناسبة. كما كان يتولى أمغار تمثيل القبيلة في المفاوضات مع القبائل المجاورة، مما يتطلب منه مهارات ديبلوماسية عالية وقدرة على التفاوض بذكاء وحكمة.
تراجع نظام أمغار
رغم الفعالية الكبيرة لهذا النظام، إلا أن منصب أمغار يكاد يختفي اليوم بسبب عدة عوامل، منها الهجرة المكثفة نحو المدن وامتداد سلطة الدولة المركزية إلى جميع مناطق المغرب، بما في ذلك المناطق النائية. ومع اختفاء هذا النظام، يفقد المجتمع الأمازيغي أحد أبرز أدواته في تنظيم نفسه والمحافظة على تماسكه الداخلي.
خاتمة
يمثل نظام أمغار مثالًا حيًا على عبقرية المجتمع الأمازيغي في ابتكار حلول تنظيمية فعالة ومستدامة. ورغم تراجع هذا النظام في العصر الحديث، إلا أن دراسته وفهمه يمنحنا رؤية أعمق لتاريخ الأمازيغ وثقافتهم وقدرتهم على إدارة شؤونهم بشكل مستقل وفعّال. إن استحضار مثل هذه التجارب التاريخية يعزز فهمنا لأهمية النظام والعدل في بناء المجتمعات المتماسكة والمستقرة.
آراؤكم تهمنا وهي مصدر إلهام لنا لتقديم الأفضل دائمًا
ردحذف